كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)}.
قوله: {أولئك الأحزاب} يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً لا محلَّ لها، وأنْ تكونَ خبرًا. والمبتدأ قال أبو البقاء: من قوله: و{عادٌ} وأَنْ يكونَ من {ثمود} وأَنْ يكونَ مِنْ قولِه: {وقومُ لوط}. قلت: الظاهرُ عطفُ {عادٌ} وما بعدَه على {قومُ نوحٍ} واستئنافُ الجملةِ بعدَه. وكان يَسُوْغُ على ما قالَه أبو البقاءِ أَنْ يكونَ المبتدأُ وحدَه {وأصحابُ الأَيْكَة}.
{إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)}.
قوله: {إِن كُلٌّ} إنْ نافيةٌ ولا عملَ لها هنا البتةَ ولو على لغةِ مَنْ قال:
إن هو مُسْتَوْلِيًا على أحدٍ

وعلى قراءة {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادًا} لانتقاض النفي ب إلاَّ فإنَّ انتقاضَه مع الأصلِ، وهي ما مُبْطِلٌ فكيف بفَرْعِها؟ وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جوابًا للقَسم.
{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)}.
قوله: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ {لها} رافعًا ل {مِنْ فَواق} بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل {صَيْحةً} ومِنْ مزيدةٌ. وقرأ الأخَوان {فُواق} بضمِّ الفاءِ، والباقون بفتحها. فقيل: هما لغتان بمعنًى واحدٍ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع، والمعنى: ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ. وفي الحديث: «العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة» وهذا في المعنى كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34]. وقال ابن عباس: ما لها مِنْ رجوعٍ. مِنْ أفاق المريضُ: إذا رَجَعَ إلى صحته. وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها. يقال: أفاقَتِ الناقةُ تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها. والفِيْقَةُ: اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق. وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع. ويُقال: ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ. وقيل: فَواق بالفتح: الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب. قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء. ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي. وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ. والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ الشَّعْر وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه.
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)}.
قوله: {قِطَّنَا} أي: نصيبَنا وحَظَّنا. وأصلُه مِنْ قَطَّ الشيءَ أي: قطعَه. ومنه قَطَّ القلمَ. والمعنى: قَطْعه مِنْ ما وَعَدْتَنا به ولهذا يُطْلق على الصحيفةِ والصَّكِّ قِطٌّ لأنهما قطعتان تَقْطعان. ويقال للجائزة: أيضًا قِطٌّ لأنَّها قطعة من العَطِيَّةِ. قال الأعشى:
ولا المَلِكُ النعمانُ يومَ لَقِيْتَه ** بغِبْطَتِه يُعْطي القُطوطَ ويَأْفِقُ

وأكثرُ استعمالِه في الكتابِ. قال أمية:
قومٌ لهمْ ساحَةٌ أرضُ العراقِ وما ** يُجْبَى إليهمْ بها والقِطُّ والقَلَمُ

ويُجمع على قُطوط كما تقدَّم، وعلى قِطَطَة نحو: قِرْد وقِرَدَة وقُرود. وفي القِلَّة على أَقِطَّة وأَقْطاط كقَدَح وأَقْدِحة وأَقْداح، إلاَّ أن أَفْعِلة في فِعْل شاذ.
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا داود ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)}.
قوله: {داود} بدل أو عطف بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمارِ أعني. و{ذا الأيْدِ} نعتٌ له. والأيْدُ: القوةُ. يقال: رجلٌ أَيْدٌ وأَيادٌ.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)}.
قوله: {يُسَبِّحْنَ} جملةٌ حاليةٌ من {الجبال}. وأتى بها فِعْلًا مضارعًا دونَ اسمِ فاعلٍ فلم يَقُلْ مُسَبِّحات، دلالةً على التجدُّدِ والحدوثِ شيئًا بعد شيء، كقولِ الأعشى:
لعَمْري لَقَدْ لاحَتْ عيونٌ كثيرةٌ ** إلى ضوءِ نارٍ في يَفَاعٍ تُحَرَّقُ

أي: تُحَرَّقُ شيئًا فشيئًا. ولو قال: مُحَرَّقة لم يَدُلَّ على هذا المعنى.
{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)}.
قوله: {والطير مَحْشُورَةً} العامَّةُ على نَصْبِهما، عَطَفَ مفعولًا على مفعول وحالًا على حال، كقولِك: ضربْتُ زُيدًا مكتوفًا وعمرًا مُطْلَقًا. وأتى بالحالِ اسمًا لأنه لم يَقْصِدْ أن الفعلَ وقع شيئًا فشيئًا لأنَّ حَشْرَها دُفْعَةً واحدةً أَدَلُّ على القدرة، والحاشرُ اللَّه تعالى. وقرأ ابن أبي عبلة والجحدريُّ برفعِهما جعلاهما جملةً مستقلة مِنْ مبتدأ وخبر.
قوله: {كُلٌّ له} أي: كلٌّ من الجبالِ والطيرِ لداودَ. أي: لأجلِ تسبيحِه مُسَبِّح، فوضَع {أوَّاب} موضعَ مُسَبِّح. وقيل: الضمير للباري تعالى، والمرادُ كلٌّ مِنْ داودَ والجبالِ والطيرِ مُسَبِّح ورَجَّاع لله تعالى.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}.
قوله: {وَشَدَدْنَا} العامَّةُ على تخفيفِ {شَدَدْنا} أي: قَوَّيْنا كقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك}. وابنُ أبي عبلة والحسن {شَدَدْنا} بالتشديد وهي مبالَغَةٌ لقراءةِ العامَّةِ.
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)}.
قوله: {نَبَأُ الخصم} قد تقدَّم أنَّ الخَصْمَ في الأصل مصدرٌ فلذلك يَصْلُحُ للمفردِ والمذكرِ وضِدَّيْهِما، وقد يطابِقُ. ومنه: {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص: 22] و{هذان خَصْمَانِ} [الحج: 19]. والمرادُ بالخَصْمِ هنا جمعٌ بدليلِ قولِه: {إذ تَسَوَّرُوا} وقوله: {إذ دَخَلُوا}. قال الزَمخشريُّ: وهو يقعُ للواحدِ والجمعِ كالضَّيْفِ. قال تعالى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] لأنه مصدرٌ في أصله يُقال: خَصَمه يَخْصِمُه خَصْمًا كما تقول: ضافه ضَيْفًا. فإنْ قلتَ: هذا جمعٌ وقولُه: {خصمان} تثنيةٌ فكيف استقَامَ ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خَصْمان، والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ {خَصْمَانِ بغى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} ونحوُه قوله تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا}. فإنْ قلتَ: فما تصنعُ بقولِه: {إِنَّ هَذَآ أَخِي} وهو دليلٌ على الاثنين؟ قلت: هذا قولُ البعضِ المراد به: {بَعْضُنَا على بَعْضٍ}. فإنْ قلت: فقد جاء في الرواية: أنه بُعِثَ إليه مَلَكان. قلت: معناه أن التحاكمَ بين مَلَكَيْن، ولا يمنعُ ذلك أَنْ يَصْحَبَهما آخرون. فإن قلت: كيف سَمَّاهم جميعًا خَصْمًا في قوله: {نَبَأ الخَصْمِ} و{خَصْمان}؟ قلتُ: لَمَّا كان صَحِبَ كلَّ واحدٍ من المتحاكميْن في صورةِ الخَصْمِ صَحَّت التسميةُ به.
قوله: {إذ تَسَوَّروا} في العامل في إذ أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ للنبأ إذا لم يُرِدْ به القصة. وإليه ذهبَ ابنُ عطيةَ وأبو البقاء ومكي. أي: هل أتاك الخبرُ الواقعُ في وقتِ تَسَوُّرِهم المحرابَ؟ وقد رَدَّ بعضُهم هذا: بأنَّ النبأ الواقعَ في ذلك الوقتِ لا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنْ أريد بالنبأ القصةُ لم يكن ناصبًا. قاله الشيخ. الثاني: أنَّ العاملَ فيه {أتاك} ورُدَّ بما رُدَّ به الأولُ. وقد صَرَّحَ الزمخشريُّ بالردِّ على هذين الوجهين، فقال: فإنْ قلتَ بم انتصبَ إذ؟ قلت: لا يَخْلوا إمَّا أَنْ ينتصِبَ ب {أتاك} أو بالنبأ أو بمحذوفٍ. فلا يَسُوغ انتصابُه ب {أتاك} لأنَّ إتْيانَ النبأ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقعُ إلاَّ في عهدِه لا في عهدِ دوادَ، ولا بالنبأ؛ لأنَّ النبأ واقِعٌ في عهدِ داودَ فلا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وإن أَرَدْتَ بالنبأ القصةَ في نفسِها لم يكنْ ناصبًا، فبقي أَنْ يكونَ منصوبًا بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأُ تحاكُمِ الخَصْمِ إذ، فاختار أن يكونَ معمولًا لمحذوفٍ. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بالخصْم لِما فيه من معنى الفعلِ.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى داود فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)}.
قوله: {إِذْ دَخَلُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه بدل مِنْ إذ الأولى. الثاني: أنَّه منصوبٌ ب {تَسَوَّرُوا} ومعنى تَسَوَّروا: عَلَوْا أعلى السُّورِ، وهو الحائطُ، غيرُ مهموزٍ كقولك: تَسَنَّم البعيرَ أَي: بَلَغَ سَنامَه. والضميرُ في {تَسَوَّروا} و{دخلوا} راجعٌ على الخصم لأنه جمعٌ في المعنى على ما تقدَّم، أو على أنَّه مثنى، والمثنى جمعٌ في المعنى، وقد مضى الخلافُ في هذا محققًا.
قوله: {خَصْمان} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: نحن خَصْمان؛ ولذلك جاء بقولِه: {بَعْضُنا}. ومَنْ قرأ {بعضهم} بالغَيْبة يُجَوِّز أن يُقَدِّرَه كذلك، ويكون قد راعى لفظَ {خَصْمان} ويُجَوِّزُ أنْ يُقَدِّرَ هم خصمان ليتطابَقَ. ورُوِي عن الكسائي {خِصْمان} بكسر الخاء. وقد تقدَّم أنه قرأها كذلك في الحج.
قوله: {بَغَى بَعْضُنا} جملةٌ يجوزُ أَنْ تكون مُفَسِّرَةً لحالِهم، وأن تكونَ خبرًا ثانيًا.
قوله: {ولا تُشْطِطْ} العامَّةُ على ضَمِّ التاء وسكونِ الشينِ وكسرِ الطاءِ الأولى مِنْ أشْطَطَ يُشْطِطُ إشْطاطًا إذا تجاوز الحقَّ. قال أبو عبيدة: شَطَطْتُ في الحُكْمِ؛ وأَشْطَطْتُ فيه، إذا جُرْتُ فهو ممَّا اتفق فيه فَعَل وأَفْعَل، وإنما فَكَّه على أحدِ الجائزَيْن كقولِه: مَنْ يَرْتَدِدْ وقد تقدَّم تحقيقُه. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابنُ أبي عبلة {تَشْطُط} بفتح التاءِ وضَمِّ الطاءِ مِنْ شَطَّ بمعنى أشَطَّ كما تقدَّم. وقرأ قتادة {تُشِطَّ} مِنْ أشطَّ رباعيًا، إلاَّ أنه أدغم وهو أحد الجائزَيْن كقراءة مَنْ قرأ {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} وعنه أيضًا {تُشَطِّطْ} بفتح الشين وكسرِ الطاءِ مُشَدَّدةً شَطَّطَ يُشَطِّطُ. والتثقيلُ فيه للتكثيرِ. وقرأ زر بن حبيش {تُشاطِطْ} من المفاعلة.
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)}.
قوله: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} العامَّةُ على كسر التاءِ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما، وهي لُغَيَّةٌ. وقرأ العامَّةُ {نَعْجة} بفتح النون، والحسن وابن هرمز بكسرها. قيل: وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ.
وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ:
أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ ** رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ

ونَعْجتي خَمْسًا تُوَفِّيْهِنَّهْ

وقال آخر:
هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ ** لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ

وقوله: {وعَزَّني} أي: غَلَبني. قال الشاعر:
قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ ** تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ

يقال: عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس. وقرأ طلحة وأبو حيوة {وَعَزَني} بالتخفيف. قال ابن جني: حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفًا. كما قال:
أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ

يريد: أَحْسَسْنَ، فحذف. وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك {وعازَّني} بألفٍ مع تشديد الزاي، أي: غالبني.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)}.
قوله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، والفاعلُ محذوفٌ أي: بأَنْ سَأَلك نعجَتك، وضُمِّنَ السؤالُ معنى الإِضافةِ والانضمامِ أي: بإضافةِ نعجتِك على سبيل السؤال، ولذلك عُدِّي ب إلى.
قوله: {لَيَبْغي} العامَّةُ على سكونِ الياءِ وهو مضارعٌ مرفوعٌ في محلِّ الخبرِ ل إنَّ وقُرِئ {لَيَبْغيَ} بفتح ياءَيْه. ووُجِّهَتْ: بأن الأصلَ: لَيَبْغِيَنْ بنونِ التوكيد الخفيفة والفعل جواب قسم مقدر، والقسم المقدر وجوابه خبر إنَّ تقديره: وإن كثيرًا من الخلطاء والله ليبغين، فحُذِفَت كما حُذِفَ في قوله:
اضْرِبَ عَنْك الهمومَ طارِقَها

وقُرِئ {ألم نَشْرَحَ} بالفتح وقوله:
مِنْ يومِ لم يُقْدَرَ أو يومَ قُدِرْ

بفتح الراء.
وقُرِئَ: {لَيَبْغِ} بحَذْف الياء. قال الزمخشري: اكتفى منها بالكسرة وقال الشيخ: كقوله:
محمدُ تَفِدْ نفسَك كلُّ نَفْسٍ

يريد تَفْدِي على أحدِ القولين يعني: أنه حذفَ الياءَ اكتفاءً عنها بالكسرةِ. والقول الثاني: أنه مجزومٌ بلامِ الأمرِ المقدرةِ. وقد تقدَّم هذا في سورة إبراهيم عليه السلام، إلاَّ أنَّه لا يتأتَّى هنا لأنَّ اللامَ مفتوحةٌ.
قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه: {بعضهم} وقوله: {وقليلٌ} خبرٌ مقدمٌ وما مزيدةٌ للتعظيم. و{هم} مبتدأ.
قوله: {فَتَنَّاه} بالتخفيفِ. وإسنادُه إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه قراءةُ العامَّةِ. وعمرُ بن الخطاب والحسن وأبو رجاء {فَتَّنَّاه} بتشديد التاء وهي مبالغةٌ. وقرأ الضحاك {أفتنَّاه} يُقال: فَتَنَه وأَفْتَنَه أي: حَمَله على الفتنةِ. ومنه قولُه:
لَئِنْ فَتَنَتْنِيْ لَهْيَ بالأَمْسِ أَفْتَنَتْ

وقرأ قتادةُ وأبو عمروٍ في روايةٍ {فَتَناه} بالتخفيف. و{فتنَّاه} بالتشديد والألفُ ضميرُ الخصمين. و{راكِعًا} حالٌ مقدرةٌ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ لظهورِ المقارنة.
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}.
قوله: {ذَلِكَ} الظاهرُ أنَّه مفعولُ {غَفَرْنا}. وجَوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك وأيُّ حاجةٍ إلى هكذا؟
{يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)}.
قوله: {فَيُضِلَّكَ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ في جوابِ النهي. والثاني: أنه عطفٌ على {لا تَتَّبِعْ} فهو مجزومٌ، وإنما فُتِحَتْ اللامُ لالتقاء الساكنين، وهو نهيٌ عن كل واحدٍ على حِدَتِه، والأولُ فيه النهيُ عن الجمع بينهما. وقد يَتَرَجَّح الثاني لهذا المعنى. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في البقرة في قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42]. وفاعل {فَيُضِلَّك} يجوزُ أَنْ يكونَ {الهوى} ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ المصدرِ المفهوم من الفعل أي: فيُضِلَّك اتِّباعُ الهوى. والعامَّةُ على فتحِ {يَضِلُّون} وقرأ ابنُ عباس والحسن وأبو حيوة {يُضِلُّون} بالضمِّ أي: يُضِلُّون الناسَ، وهي مُسْتَلْزِمَةٌ للقراءةِ الأولى، فإنه لا يُضِلُّ غيرَه إلاَّ ضالٌّ بخلافِ العكسِ.
قوله: {بما نَسُوا} ما مصدريَّةٌ. والجارُّ يتعلَّقُ بالاستقرار الذي تضمنَّه {لهم}. و{لهم عذابٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً خبرًا ل إنَّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ وحدَه الجارَّ. و{عذابٌ} فاعلٌ به وهوالأحسنُ لقُرْبِه من المفرد.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}.